مدونات جيل01

الفنون… كم تحتل من حيّز تفكيرنا، دولةً وأفرادًا؟ 

 

أؤمن بأننا جميعًا نمتلك القدرة على تذوّق الفنون، الاستمتاع بها، والاستلهام منها، إذ “كلنا نرقص في الطبيعة وجمالها”، على حد تعبير ضيفتي التي سأعرفكم بها بعد قليل في هذه المدوّنة.  

كخرّيج من كلية لومينوس الجامعية، قسم الوسائل الإبداعية (SAE)، بدأتُ أولى خطواتي في عالم الإعلام وصناعة الأفلام. وهو، عالم يحتاج للحس الفني والقدرة على ترجمة الواقع بشكل إبداعي بالكتابة والدراما والتمثيل أكثر من أي شيء آخر. من هنا، جاء اهتمامي بموضوع الفنون كأداة تمتد أيضًا للتنمية، واخترتُ أن أكتب مدوّنتي عنه، لأنقل واقع الفنون في الشارع الأردني؛ أبحث عن إجابات لأسئلتي وأسئلة الشابات والشباب من جيلي؛ وأساهم ولو بشكل بسيط في بث رسالة أمل وتشجيع لكل المهتمين والمهتمات في الفنون، في بلد قد لا يأخذ هذا المجال الكثير من حيّز أولوياته.  

سعدتُ بلقاء لينا التل، رئيسة المركز الوطني للثقافة والفنون، فنانة الدراما المسرحية الشغوفة التي آمنتْ بدور الفنون في بناء المجتمعات، فنقلت هذا الإيمان لمن حولها، وكسبت الدعم، وأسست مركزًا عام 1987 أصبح اليوم وجهة مرموقة لنشر الإبداع، وترسيخ القيم الإنسانية والتقبّل بين الثقافات.  

 

ماذا لو لم تكن الفنون موجودة؟  

لو تخيّلنا عالمنا بلا تمثيل، كتابة، رسم، موسيقى، غناء، مسرح.. هل سينقصنا الكثير؟ 

برأيي إن أول ما سينقصنا هو القدرة على الإحساس بما حولنا، وبمن حولنا. قد تتأثر طريقة حكمنا على الأمور، ربما سنرى العالم بمنظور واحد ضيّق الأفق. لن نطّلع على ثقافات الآخرين، قصصهم، وقضاياهم. حتى التاريخ، سيكون من الصعب علينا قراءته. والأهم، كيف لنا أن نوصل صوتنا للعالم إذا افتقرت كلماتنا للعاطفة والخيال؟  

لا شك بأن الفنون تؤثر إلى حد كبير في تكوين الشخص وبنائه النفسي. تقول التل: “الإنسان الذي استكشف الفنون في عمر مبكرة عادةً ما يكون متزنًا ومتصالحًا مع ذاته، ولديه القدرة على تفهّم السلوك الإنساني من حوله. في الدراما المسرحية على سبيل المثال، المهارات التي يتعرض لها الفرد، مثل الارتجال وكتابة المشاهد والعمل الجماعي، تساهم في زيادة الوعي والثقة بالنفس، وتكوّن عند الشخص تعبيرًا إبداعيًا وتفكيرًا ناقدًا وتحليلًا عميقًا يجعله يضع نفسه مكان الآخر، ويتفهّم سلوكه”.   

على الناحية الأخرى، للفنون دور في حفظ الهوية الوطنية والتراث من الضياع. تعمل اليونيسكو على إضافة أنواع متعددة من الفنون على قائمتها للتراث الثقافي غير المادي، الأمر الذي يزيد من انتشارها بشكل أوسع ويحفظها من الاندثار، خاصة الفنون التي أصبح عدد من يمارسها قليل نسبيًا. ومن الفنون التقليدية العربية التي تم إدراجها على قائمة اليونيسكو: الخط العربي، فن التطريز الفلسطيني، وفن التلي الإماراتي التقليدي، رقص الراي الجزائري الشعبي، وغيرها 1.  

 

الفن أداة لنشر التفهّم والتقبّل 

يجعلنا أسلوب “اللو السحرية – the magic if ” في الدراما المسرحية؛ وتحديدًا في المسرح التفاعلي، نفكّر فيما لو كنا مكان هذا الشخص. كيف سنتصرّف؟ ماذا ستكون ردة فعلنا؟ ما سينعكس بالتأكيد على تفكيرنا، ويبني لدينا سلوكًا أكثر اتزانًا، ويجعلنا مهذّبي النفس، على حد تعبير التل.  

وعودة بالخط الزمني للفنون وأثرها على الشباب واليافعين في الأردن، تقول التل: “في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي، كان المسرح والموسيقى جزءًا من المنهاج في المدارس الحكومية والخاصة. حتى أننا في آخر الثمانينات طوّرنا دليلًا للمعلمين حول الدراما في التربية والتعليم. وكان ذلك مدعومًا ببند وضعه الراحل والدي، أحمد التل، ينص على أن يكون المسرح والدراما جزءًا أساسيًا في العملية التعليمية ضمن الخطة الخمسية في عام 1985. لكن كل هذا الاهتمام بدأ بالتراجع في التسعينيات بسبب التدخلات في المناهج. وقد شهدنا إهمالًا وإقصاءً للفنون في مدارسنا.. انعكس الأثر بعد فترة، حينما أصبحت المدارس والجامعات تشهد مستويات أعلى من العنف. وأصبح هناك توجه للتطرف، وقد تنبّهت الدولة لأهمية إحياء الفنون لإعادة توجيه هذا الأمر”. 

تسعى العديد من منظمات المجتمع المدني حاليًا إلى استخدام الفنون كأداة لإيجاد مساحة آمنة تشمل الجميع، خاصة عبر المجتمعات المقسمة أو التي تشهد نوعًا من النزاعات. ومن خلال الأنشطة الفنية المدروسة؛ يمكن لأفراد هذه المجتمعات أن يعبروا عن أنفسهم، عن صدماتهم ومشاكلهم، ويشكّلوا وعيًا أكبر حولها، ويتفهموا بعضهم البعض عبر لغة مشتركة هي الفن.  

والمميز بالفنون أنها تشمل الجميع دون استثناء، وتساعد في تعزيز الدمج. تقول التل: “الأشخاص ذوي الإعاقة هم أكثر من يمتلكون المواهب. عملنا معهم في مركزنا، ورغم المعيقات الجسدية التي يواجهونها، إلا أنهم استطاعوا تقديم أعمال فنية رائعة، غنوا ورقصوا ورسموا بكل شغف”.  

 

فجوة منهاج الفنون بين المدارس الخاصة والحكومية.. إلى متى؟  

تنتهج بعض المدارس الخاصة نظامًا تعليميًا دوليًا تدخل فيه الفنون بشكل أساسي، فماذا عن مدارسنا الحكومية وحصة الفن التي عادةً ما كانت تُستغل لتعويض مادة؛ كالرياضيات أو العلوم. هل هناك أي توجه لتصويب هذا الوضع؟ 

ترى التل أن الفنون ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالتطور النفسي والجسدي للأطفال واليافعين، وهي تثري بشكل مباشر العملية التعليمية. “الفن متعة، وإضافته للمنهاج المدرسي سيجعل الطالب يحب المدرسة بشكل أكبر. في الفن لا يوجد شاطر وكسلان. بل يوجد مساحة واسعة للتعبير بلا أحكام، بلا صح أو خطأ”. وأضافت: “كل إنسان على الكرة الأرضية فنان، وكل منا لديه طريقته في التعبير، ما ينقصنا هو تعزيز وصقل هذه الموهبة والشغف. 

عام 2018، صدر قرار من وزير التربية والتعليم بأن يخصص 20% من المنهاج للأنشطة غير المنهجية؛ أي حصتي نشاط في الأسبوع. مما يتيح للمعلمين والمعلمات مساحة لتطبيق الأنشطة الفنية. لكن ينقصنا المحتوى الذي سيقدمه المعلمون لطلبتهم. اليوم، هناك توجه رسمي وموافق عليه ليصبح مبحث الفنون الموسيقية والمسرحية والبصرية مادة رسمية تُطبّق في المدارس. وهناك حوالي 60-70 نشاطًا لا منهجيًا أضافتهم وزارة التربية والتعليم على موقعها الإلكتروني ليتمكن المعلم من تطبيقها داخل الغرف الصفية.  

لكن يبقى التحدي في التطبيق والاستمرارية. إذا لم تتم مأسسة المحتوى وتدريب المعلمين بشكل ممنهج ستبقى الأنشطة متفرقة وغير مستدامة. اليوم، نحن بحاجة لتدريب الخريجين من المعلمين وتأهليهم حول كيفية تطبيق الدراما في التربية، كما أن هناك خطة لتوظيف خريجي المسرح والموسيقى لتدريس هذه المواد في المدارس، وهذه كلها مؤشرات إيجابية”.  

وفي حديثها عن الدعم الذي يقدمه المركز في هذا المجال، أشارت التل إلى أن 300  معلم ومعلمة من عمّان وإربد والكرك والزرقاء تلقوا تدريبًا حول استخدام الدراما في التربية والتعليم وتقنيات الفنون المسرحية، وقد تم الاحتفاء بهم خلال مؤتمر الدراما في التربية والتعليم الذي كان قد أقيم قبل مقابلتي معها بأيام.   

لا يقتصر الأمر على فئة طلبة المدارس فحسب، بل هناك حوالي 200 مركز شبابي منتشرة حول محافظات المملكة تابعة لوزارة الشباب ومديريات تابعة لوزارة الثقافة، وكلها يمكن استثمارها لسد هذه الفجوة وإقامة أنشطة فنية موجهة للشباب واليافعين. “ليس شرطًا أن يكون الدعم دائمًا ماليًا. يل أحيانًا يكون فكريًا، بحيث تفتح هذه المراكز والمديريات أبوابها وتوفر مساحات للفنانين المحليين لمشاركة مواهبهم وإبداعاتهم، وتدريب غيرهم ضمن مجتمعاتهم”، أضافت التل.  

 

متى يعتمد الفن على ذاته ويصبح أداة لدعم الاقتصاد؟ 

يبدو أننا في الأردن لا زلنا نفتقر لفكرة توظيف الفن في رفد الاقتصاد. أن تموّل الحركات الفنية نفسها بدلًا من الاعتماد على الدعم المالي الذي قد لا يستمر.  

“هناك حديث حول أهمية الصناعات الإبداعية في رفد الاقتصاد، لكننا نفتقر للتطبيق. يتمثل الدعم في العديد من الطرق، كتسهيل اللوجستيات، مثل الإعفاء الضريبي عن تذاكر العروض الفنية، وإعداد أجندة فنية يتم تسويقها عالميًا للفعاليات الفنية التي ستقام على مدار العام في الأردن، والتعاون فيما بين القطاع العام والخاص والأهلي لدعم الفرق الشعبية المحلية في الجنوب والشمال لتؤدي عروضًا في الفنادق والوجهات السياحية”، تقول التل.  

وتابعت: “لدينا في الأردن صندوق دعم الثقافة. هذا الصندوق للأسف لم يتم تفعيله بعد… تخيّل مقدار المنافسة الإيجابية التي قد يخلقها هذا الصندوق عند تفعيله بشكل صحيح. ندعم مجموعة من الفرق المسرحية أو الشعبية، والفرقة التي تقدم أفضل أداء، هي التي ستحصل على الدعم في العام الذي يليه”.  

 

الفنون ثقافة وليست رفاهية   

إلى جانب كل ما ذكرته التل من حلول، أرى أيضًا أن إحياء الفنون كوسيلة للتنمية يحتاج لاجتهاد شخصي وإيمان كبير منا كشباب. فمع وجود وسائل التواصل الاجتماعي، أصبح بإمكان أي شخص لديه موهبة استخدام صفحته للإعلان عنها والترويج لنفسه ولمنتوجه الفني. 

جميعنا يمكننا المساهمة في نقل المعرفة الفنية لمن حولنا، ندعم المبادرات والفرق والمشاريع الصغيرة في مناطقنا، نثري الذائقة الفنية للجيل الأصغر منا، ونكتب وننشر عن الموضوع. كلها طرق بإمكانها أن تساعدنا في التعبير وترسيخ الفنون كثقافة متأصّلة، وليس كنوع من الرفاهية الثانوية.  

  

 

هذه المدوّنة تعكس رأي الشاب يوسف يوسف بعد لقاء أجراه مع لينا التل، إحدى أبرز المختصات في مجال الفنون والدراما في التربية والتعليم، كجزء من برنامج “جيل 01” المنفذ من قبل هيئة أجيال السلام، بدعم من السفارة الأمريكية في الأردن. 

تم تمويل هذه المدوّنة بمنحة من وزارة الخارجية الأمريكية. الآراء والنتائج والاستنتاجات الواردة هنا هي آراء المؤلف/ة ولا تعكس بالضرورة آراء ونتائج واستنتاجات وزارة الخارجية الأمريكية.

 يوسف يوسف في لقاء مع لينا التل رئيسة المركز الوطني للثقافة والفنون