مدونات جيل01

الصحة النفسية... من الإنكار للشفاء، هل ممكن؟ 

 

“بعد فترة من الجلسات، بدأتُ أرى الشمس على الأقل”. 

هل كنتِ لا ترينها؟ سألتُها.  

“لا، كنتُ أعتقد أنني لا أستحق أن أراها”.  

هذا جزء من حوار دار بيني وبين صديقة لي كانت قد بدأت بجلسات للعلاج النفسي منذ حوالي عامين. كنت مستغربًا من إقدامها على هذه الخطوة. فخارجيًا كانت تبدو بقمة التوازن والفرح، لكن يبدو أن ما يدفع الأشخاص للعلاج النفسي ليس بالضرورة أن يكون ظاهرًا للجميع… 

اخترتُ موضوع الصحة النفسية للشباب لأكتب مدوّنتي عنه. وبعد بحث طويل عن أشخاص قد يساعدونني في إيجاد أجوبة للأسئلة التي تدور في ذهني وذهن فريق جيل01  من الشابات والشباب، سعدتُ بلقاء الدكتورة مها درويش، أخصائية الصحة النفسية. تحمل ضيفتي شهادة الدكتوراه في علم النفس العيادي من الجامعة اللبنانية، وتعمل في مجالات التدريب والتدريس والاستشارات فيما يتعلق بالصحة النفسية، وهي تعمل في مكتب استشاري لمتابعة الحالات النفسية في الزرقاء، وهو ممول من منظمات غير حكومية، حيث في كثير من الأحيان تمارس عملها كمتطوعة.  

 

من منا يحتاج لطبيب نفسي؟ أو ربما السؤال الأدّق، من منا لا يحتاجه؟  

وسط أسلوب الحياة السريع الذي نعيشه اليوم. ضغوطات يومية، إشعارات سوشال ميديا لا تنقطع، أخبار وأحداث متتالية، يرافقها انعدام القدرة على فهم مشاعرنا وترتيب أفكارنا، أرى بأننا جميعًا قد نحتاج في مرحلة ما إلى طبيب نفسي أو أخصائي صحة نفسية يساعدنا على إيجاد حلول للأعراض التي نشهدها. وبينما قد تتفاوت هذه الأعراض؛ من أعراض تطول اضطرابات المشاعر وطرق التفكير، لأعراض عقلية قد تفصلنا حرفيًا عن الواقع، تبقى الخطوة الأولى، أن نعترف بوجود مشكلة يجب حلها. لكن لماذا نواجه كل هذه الصعوبة في الاعتراف؟  

إن ربط زيارة الطبيب النفسي بوصمة الجنون هي على حد اعتقادي هي العائق الأول أمام الاعتراف، ودليل ذلك أن أي نسبة قد نشير لها اليوم في موضوع الأمراض النفسية وانتشارها لا تكون دقيقة، بسبب توجه العديد من الأفراد لإخفاء الحقيقة.  

وقد علقت ضيفتي بمثال على ذلك: “قد تسأل إحدى النساء، هل تتعرضين لعنف من زوجك؟ فيكون جوابها، لا. لكنها تخفي الحقيقة. وهذا ينطبق على الأمراض النفسية في مجتمعنا. جاءت كلمة مجنون بالأساس من تلبّس الجن للإنسان. أي تلبّسه جِن. لذلك، للأسف، تجد العيادة النفسية هي آخر وجهة قد يلجأ لها الفرد، بعد أن يكون قد اتجه للشيوخ أو الدجالين أو غيره”.  

وتابعت: “جميعنا دون استثناء نحتاج لجلسات الدعم النفسي، والدعم النفسي الاجتماعي. وجود المرشد النفسي في المدرسة مهم جدًا. ووجود الدورات والتدريبات الخاصة ببناء المهارات الحياتية لليافعين والشباب أيضًا مهم؛ كإدارة الغضب والتعامل مع الضغوطات وتنظيم الوقت. كلها خطوات تبني المرونة لدى الإنسان، وتساهم في تغيير طريقة تفكيره، والتي برأيي الشخصي هي المفتاح لكثير من المشاكل النفسية. لكن، هل كلنا بحاجة إلى أدوية نفسية؟ الجواب، لا. الأخصائي النفسي والطبيب هما فقط من يحددان ذلك. وبشكل عام؛ من يلجأ للطبيب النفسي لتناول الأدوية، يحتاج بالتأكيد لجلسات دعم نفسي، لكن من يلجأ للأخصائي النفسي لتلقي الدعم قد لا يحتاج إلى الأدوية من الطبيب”.  

والغريب في هذا كله، أنني مثلًا من العيب أن أعترف أن لديّ مشكلة ما، لكن من الطبيعي والعاديّ أن أجعل مآلات هذه المشكلة وعواقبها تنعكس على نفسي وعلى كل من حولي. تقول صديقتي: “كنتُ أعتقد أن جلد الذات هو الطريقة الوحيدة لأحل بها أي سلوك سلبي يصدر مني. كنتُ أرى فيه نوعًا من الصحوة والاعتراف بأنني قد أخطأت. ساعات من البكاء والندم واجترار الأحداث. ثم مجددًا أعود للسلوك نفسه. مع العلاج النفسي بدأت أجد أفكارًا جديدة لحل مشكلاتي وسلوكياتي. وفهمت بأن أن جلد الذات كان بحد ذاته يساهم في تكرار السلوكيات السلبية بدلًا من حلها”.  

 ويشير المتخصصون في تقرير صدر عبر موقع بترا أن 60 % ممن يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية لا يطلبون المساعدة المتخصصة خوفًا من الوصم 1. ما يعني أننا كمجتمع كامل نتحمل عواقب متنوعة وكبيرة؛ منها انعدام الثقة وقلة التواصل، وسوء الإنتاجية، وتفكك الأسر، والانتحار والجريمة في كثير من الأحيان… وكل هذا، حتى لا نُدعى بالمجانين!  

 

هل هناك أشخاص أكثر عرضة للمرض النفسي من غيرهم؟  

خلال حديثنا، قسّمت الدكتورة الأمراض النفسية لأنواع:  

  • أولًا الاضطرابات العقلية: كالفُصام. فيها يكون المريض غير واعيًا لمرضه، ومنكرًا له. لذا، فإننا في مراحل علاجه، سنتحدث لأسرته أو من يقدمون الرعاية له.  نوعية الأدوية، مواعيدها، الجرعات، كلها نبحثها مع مقدم الرعاية، حتى نحاول الحفاظ على الاستمرارية في العلاج.  
  • ثانيًا، الاضطرابات النفسية: كالقلق والوسواس القهري. وفيها يمكن للمريض أن يعي لمرضه ويكتشف مشكلته.  
  • ثالثًا، الاضطرابات المزاجية: كالاكتئاب. وفي أغلب الأحيان هي متعلقة بالتركيبة الكيميائية في الدماغ. وإن أكثر الأشخاص قدرة على إدراك هذا النوع من الاضطرابات هو المريض نفسه، لأن لديه نوع من المعاناة التي يشعر بها كل يوم، ويريد لها حلًا.  

 

وترى الدكتورة مها درويش أن حالات الاكتئاب هي الأكثر انتشارًا في الأردن، سواءً من بين زوار العيادات النفسية أو الأشخاص الذين يتناولون الأدوية. وبحسب إحصائية للمركز الوطني للأمراض النفسية التابع لوزارة الصحة الأردنية، فإن 15% من الأردنيين يعانون من الاكتئاب، بينما يعاني 12% من القلق.2 وبرأيي إن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الصعبة، كارتفاع نسبة البطالة بين الشباب، والاستخدام الكثيف لمواقع التواصل الاجتماعي، كلها عوامل أدّت إلى وجود هذه النسب في مجتمعنا. لكن هل كلنا نتأثر بنفس الدرجة بالظروف المحيطة؟  

تقول الدكتورة درويش: “هناك عاملين رئيسيين لتحفيز المرض أو الاضطراب النفسي، وهما:  

  • العامل الوراثي: الجينات   
  • العامل البيئي: الظروف الحياتية الصعبة والصدمات  

“يولّد العامل الوراثي ما يُعرف بالهشاشة النفسية، أي سرعة حدوث الاضطراب عند وقوع حدث أو ظرف ما. هذه الهشاشة إما أن تحفّزها البيئة المحيطة للشخص الذي ورث العامل الجيني للمرض النفسي، أو أن تضُعَف وتتلاشى بفضل البيئة الداعمة والإيجابية. لكن نسبة عالية من الأمراض النفسية مرتبطة بالعامل الوراثي وهو أمر لا يجب التغافل عنه. اليوم، لا نحتاج فقط لملف للمريض في العيادة الحكومية أو الخاصة، بل نحتاج لخريطة جينية تظهر الملف المرضي العائلي بالكامل، حتى نساهم في التخفيف والتكيّف مع هذه الأمراض”.  

وقد نقلتني هذه النقطة لموضوع آخر في غاية الأهمية..  

 

هل يتبّع قطاع الصحة الأردني المعايير العالمية في العلاج النفسي؟ 

رغم أن الخدمات الصحية المتاحة للمرضى النفسيين مجانية في الأردن، إلا أن عدد المرضى يفوق السعة الاستيعابية للمراكز والمستشفيات التابعة لوزارة الصحة، وليس فقط من ناحية عدد الأسرّة، بل من ناحية قدرة الأطباء والكوادر على استيعاب كل هذه الحالات والتعامل معها بفعالية.  

“هناك جهود يتم وضعها على أرض الواقع، ولا يمكن إنكارها أو التقليل من حجمها. لكننا نحتاج للمزيد من العمل المشترك والتعاون. لا تزال الجهود متناثرة وغير ممنهجة. لدينا فجوة في أعداد الأطباء النفسيين، مما قد يعرضهم أنفسهم للاحتراق النفسي، فالطبيب الواحد تُعرض عليه حوالي 40 حالة في اليوم الواحد. كذلك هناك فجوة بأعداد المراكز العلاجية وسعتها وانتشارها”.  

في العام الماضي لوحده، زار 200,000 شخص عيادات الطب النفسي التابعة لوزارة الصحة، مقابل 135   طبيبًا نفسيًا مسجلًا في جمعية أطباء الأمراض النفسية فقط 3. “الأطباء معظمهم غير مقيمين أي أنهم يتناوبون باستمرار. أرى أن ذلك يفي بالغرض حاليًا، خاصة لصرف الأودية والإبر وما شابه، لكنه ليس الممارسة الفضلى، وقد يؤثر على رحلة علاج المريض الذي يُعرض على طبيب مختلف في كل مرة”، تقول الدكتورة.  

أما بالنسبة لأعداد مراكز الصحة النفسية في الأردن، فلدينا 52 عيادة طب نفسي تابعة لوزارة الصحة منتشرة في المملكة، و55 عيادة طب نفسي في القطاع الخاص غالبيتها تتخذ من عمّان مقرًا لها4. وأقتبس من الدكتورة بعضًا من هذه الأقسام والمراكز:  

 

  • القسم النفسي في مستشفى الزرقاء 
  • القسم النفسي في مستشفى الجامعة الأردنية  
  • مستشفى الفحيص 
  • مركز الكرامة في مقابلين  
  • مركز الصفصاف  
  • الخدمات الطبية العسكرية  
  • وفي القطاع الخاص: مركز مطمئنة ومستشفى الرشيد  

 

وأشارت الدكتورة إلى أننا في الأردن لا نزال نفتقر لتنوّع العلاجات، إذ لا يقتصر العلاج على الأدوية التي تُعطى للمريض، بل يجب أن يشمل خطة علاج شاملة؛ تضم العلاج المهني، والترفيهي، إلى جانب الدعم النفسي للأسرة المحتضنة لحالة المرض النفسي.  

“في بعض الحالات، على الأسرة أن تدرس عوامل الخطورة “risk factors” التي تواجهها من المريض. مثلًا كالتهديد بالسلاح أو الكلام أو محاولة الإيذاء الصريحة. يجب أن يكون مقدّم الرعاية أو الأسرة على وعي بهذه العوامل. في إحدى المرات أشرتُ على أم لمريض بالفُصام أن تتصل مباشرة بحماية الأسرة لو تعرضت للتهديد من ابنها”.  

إحدى الجمعيات النادرة التي تهتم بدعم المرضى النفسيين من خلال توفير برامج ترفيهية وفرص عمل وتشبيك، هي منظمة خطوتنا. وبحسب الدكتورة درويش، فإن هذه الجمعية المحلية تدافع عن حقوق هذه الشريحة، وتسعى لتوفير مجتمع دامج لهم بعيدًا عن الإساءة والتمييز الوصمة.   

 

الوعي بالصحة النفسية.. من أجلنا ومن أجلهم  

ما لا يقل عن 450 مليون إلى مليار إنسان من البشر يعانون نوعًا من الاضطرابات النفسية بحسب منظمة الصحة العالمية  5. تخيّل ألا يتوجه أي منهم للمختصين، أن يتركوا أنفسهم لتراكمات من الأعراض والتزعزع والهيجان النفسي الداخلي. ماذا سيحصل في العالم؟  

بينما نحتاج لتأطير حكومي وخطط ممنهجة وتعاون أكبر بين كل الجهات المسؤولة، يبقى الوعي الفردي أمر بإمكاننا التحكم به وتوجيهه بشكل صحيح:  

  • تغيير اللغة مثلًا. أن نتوقف عن وصف بعضنا البعض ممازحين بالـ “مفصوم، مجنونة، مريض نفسي”. 
  • وضع أنفسنا مكان الآخرين، ومحاولة التخفيف عنهم بدلًا من زيادة ضغوطهم النفسية. 
  • نشر المعلومات المفيدة.  
  • إحالة بعضنا البعض للأخصائيين والأطباء، خاصة مع وجود التطبيقات الذكية والجلسات التي تقام عبر الإنترنت، وهي أقل سعرًا من غيرها.  
  • المشاركة بحملات كسب التأييد التي تدفع باتجاه الإصلاحات والتطوير. 
  • الرد على كل من يحاول التقليل من شأن الأشخاص الذي يواجهون اضطرابات نفسية، ومثال ذلك المسلسلات التي تعرض هذه الفئة بطريقة فكاهية أو مضللة أو غير ملائمة.  

قد ننظر لمشكلاتنا النفسية على أنها ليست بالأمر الخطير، وهي ربما كذلك، لكن مادام هناك حل لها، لمَ لا نتوجه إليه؟ افرض أنك تعاني من وجع في أسنانك، هل ستنكره؟ إذًا دعونا لا ننكر اضطراباتنا النفسية. وبدلًا من أن نخجل منها، نتحدّث عنها لمن سيساعدنا في إيجاد الحل. 

وأنهي بجملة لصديقتي: “رحلة العلاج النفسي (self-healing) هي أكثر تجربة مثرية مررتُ بها في حياتي. صعبة، لكنها تجعلك أجمل”.  

 

هذه المدوّنة تعكس رأي الشاب ليث حبش بعد لقاء أجراه مع الدكتورة مهار درويش، إحدى الناشطات في مجال الصحة النفسية والدعم نفس اجتماعي، كجزء من برنامج جيل 01 المنفذ من قبل هيئة أجيال السلام، بدعم من السفارة الأمريكية في الأردن. 

تم تمويل هذه المدوّنة بمنحة من وزارة الخارجية الأمريكية. الآراء والنتائج والاستنتاجات الواردة هنا هي آراء المؤلف/ة ولا تعكس بالضرورة آراء ونتائج واستنتاجات وزارة الخارجية الأمريكية. 

 

ليث حبش في لقاء مع الدكتورة مها درويش مدربة ومدرسة واستشارية في الصحة النفسية  … كم تحتل من حيّز تفكيرنا، دولةً وأفرادًا؟